إن تعبير الرؤيا من العلوم التي تفتقر إلى استعدادات خاصة لدى الشخص المتصدي للتعبير.
ومن أبرز الصفات الصدق والتقوى، علاوة على معرفة تامة بالأعراف والطبائع البشرية والتفطن لحال الرائي والظروف والملابسات التي تدور حولها الرؤيا أو الحلم وكذلك الوقت.
والفرق بين الرؤيا والحلم يستكشف من خلال التأمل في جملة أحوال الشخص ومعرفة مزاجه، وهذا العلم من العلوم الصعبة التي لا يمكن أن تتأتى من خلال الدراسة والتعليم، والغالب فيه أنه يكون بإلهام الصواب والتسديد من قبل الله ـــ عز وجل ـــ.
أما محاولات بعض علماء النفس أن يعرفوا حقيقة الحلم وما يشير إليه عبر منهج التحليل النفسي فلا يعد من علم تعبير الرؤيا، ولكن يستفيد المحلل النفسي من بعض الإشارات ويستدل بها على نفسية المريض لأجل العلاج النفسي.
ويجب أن نلفت الانتباه إلى أن الحلم أنواع: فمنه حديث النفس فمن يحدث نفسه بأمر مهم قد يراه في الحلم، وهذا لا أصل له ولا يترتب عليه شيء، ومنه مسبب عن سوء المزاج، فالمحروق مثلًا قد يرى نفسه في حوض الماء.
والعطشان يرى نفسه يشرب، وهذا لا أثر له كذلك، ومنه تحزين من الشيطان بأن يريه بعض الخيالات لأجل تكدير خاطره ويستكشف ذلك من خلال قرائن خاصة، ومنه رؤيا صحيحة من الله ـــ عز وجل ـــ.
وهذا هو الذي يتعلق به علم تعبير الرؤيا. أما غيره، فنقول: لا إشكال في كون رؤيا المؤمن جزءا من سبعين جزءا من النبوة، ولكن الإشكال يقع في أمور:
1 ـ ثبوت كون ما يراه المؤمن هو رؤيا وليس حلمًا، فالمؤمن يمكن أن يرى أضغاث الأحلام مثلما يرى الرؤى الصالحة، وبالتالي فإن احتمال كون بعض ما يراه المؤمن ليس برؤيا من الله أمر محتمل.
2 ـ إن الرؤيا إنما تكون حجة على صاحبها ولا تتعداه إلى غيره باستثناء رؤيا المعصوم (عليه الصلاة والسلام)، ولا يمكن أن تؤخذ الأحكام الشرعية من الرؤى لأنها ليست من مصادر التشريع التي هي (الكتاب والسنة).
3 ـ الاحتجاج بالرؤى في باب الشرعيات غير مقبول وفي الاعتقادات أكثر إشكالًا، لأن العقائد تفتقر إلى البرهان القاطع، والقطع لا يتأتى من الرؤى، ولا تدخل الرؤى في صياغة مقدمات برهانية لأن عمدة مقدمات البرهان هو الأمور البديهية والواقعية.
نعم، إذا دخلت الرؤى في باب الحدسيات فيمكن صياغة البرهان منها، لأن المقدمات الحدسية من الأوليات التي تبنى عليها البراهين.
غاية ما في الأمر يعسر عد جميع رؤى المؤمنين حدسًا، لأنهم متفاوتون في قوة الحدس إذ الحدس من قوى العقل وحينئذ ينبغي معرفة كون المؤمن متمتعًا بهذه القوة أم لا، فيرتد الأمر في النهاية إلى (الموهبة) لا إلى الرؤيا نفسها.
الرؤيا الصادقة التي يستشرف بها على بعض المغيبات لا تحدث عادة إلا مع نوع من الصفاء النفسي بخلاف أضغاث الأحلام فإن لها بواعث أخرى نفسية وجسدية كحديث النفس وامتلاء المعدة عند النوم وغير ذلك.
إن الرؤيا مرشدة للمؤمن عند اشتداد الكرب وطول البلاء ومهما أظلمت الدنيا فإنها واقعة لا محالة في لحظة لا يعرف الناس كيف تنقلب الأمور وتتغير الأحوال بقدرة العزيز الجبار ولذلك ترى أصحابها مطمئنين بوعد الله.
فمهما حصل في عالم الأرض لابد أن تقع كلمة الله وتتحقق الرؤيا لأنها جزء من المغيبات، وإذا وفق الرائي في معبر حاذق أدرك بدايات الأمور ومراحلها وما يعتري ذلك من شدة لكنه يدرك يقينا أنها حق ولن تتخلف حتى لو تخلى عنها كل عالم الماديات وتسلط المرهوب وتخلى الأصدقاء ففي النهاية (هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا).
ومع كل ما تقدم تجدر الإشارة إلى أنه اقتحم أبواب التعبير أناس أحسن أحوالهم أنهم يحاولون التعبير بناء على مؤشرات نفسية والاستفسار المباشر من صاحب الرؤيا، ولكن هذا الإرشاد النفسي يعتبر شيئا.
وتعبير الرؤى شيء آخر، والأدهى من ذلك المتاجرون بهذا العلم عن طريق الرسائل ووسائل الاتصال المكلفة بأسلوب تجاري أبعد ما يكون عن صفات المعبر الصادق.
كما أنه من المقرر في هذا الباب أنه ليس كل ما يرى يعبر وحكي عن قرة بن خالد قال: كنت أحضر ابن سيرين يسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يعبر من كل أربعين واحدة.
فإذا كان أشهر أئمة السلف في التعبير وإليه يضرب القدح المعلى في هذا الباب، ومع ذلك لا يفسر كل رؤيا فكيف بمفسري الأحلام في القنوات اليوم وتفسيرهم لكل شاردة وواردة.
إن الاهتمام بهذا العلم ومعرفة أهله يجب أن تكون ضمن اهتمام المؤسسات الدينية حتى لا تختلط الأوراق وتصبح مهنة مفتوحة الباب كمهنة الرقية والعلاج بالأعشاب والطاقة وغيرها من العلوم التي يدعيها الكثير بينما يختص بها القليل.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى والحمد لله الذي يرفع البأساء ويتم النعماء ويقلب الأمور، ومع المحن تكون العطايا والمنح ألا إلى الله تصير الأمور.
الكاتب: د. عبد اللطيف القرني
المصدر: صحيفة الاقتصادية العدد 6638